الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.نَظْرَةٌ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَتَقَاسِيمِهَا وَمُشْكِلَاتِهَا: اعْلَمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ دِينِهِ، أَنَّ فِي رِوَايَاتِ الْفِتَنِ وَأَشْرَاطِ السَّاعَةِ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ وَالتَّعَارُضِ مَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَعْرِفَهُ وَلَوْ إِجْمَالًا، حَتَّى لَا تَكُونَ مُقَلِّدًا لِمَنْ يَظُنُّونَ أَنَّ كُلَّ مَا يَعْتَمِدُهُ أَصْحَابُ النَّقْلِ حَقٌّ، وَلَا لِمَنْ يَظُنُّونَ أَنَّ كُلَّ مَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ النَّظَرِيَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ حَقٌّ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَبَشِّرْ عِبَادِي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (39: 17، 18) الْآيَةَ. وَقَالَ لِخَاتَمِ رُسُلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (12: 108) وَإِنَّنِي أُبَيِّنُ فِيهِ مَا يَطْمَئِنُّ بِهِ قَلْبُ الْقَانِعِ بِالْإِجْمَاعِ، وَيَفْتَحُ بَابَ التَّحْقِيقِ لِطَالِبِ التَّفْصِيلِ، فَأَقُولُ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ جَعَلُوا مَا رُوِيَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَأَمَارَاتِهَا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: مَا وَقَعَ بِالْفِعْلِ مُنْذُ قُرُونٍ خَلَتْ إِلَى زَمَنِ كُلِّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَقَدْ عَدُّوهُ عَدًّا- وَمَا وَقَعَ بَعْضُهُ وَهُوَ لَا يَزَالُ فِي ازْدِيَادٍ كَالْفِتَنِ وَالْفُسُوقِ وَكَثْرَةِ الزِّنَا وَكَثْرَةِ الدَّجَّالِينَ وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ وَتَشَبُّهِهِنَ بِالرِّجَالِ وَالْكُفْرِ وَالشِّرْكِ حَتَّى فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، وَمَا سَيَقَعُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ مِنَ الْعَلَامَاتِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى- وَمِنَ الْأُولَى قِتَالُ الْيَهُودِ وَفَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ.وَتَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ إِلَى مَا عُهِدَ وَيُعْهَدُ مِثْلُهُ فِي كُلِّ الْأُمَمِ مِنَ الْفِتَنِ وَالْقِتَالِ وَسِعَةِ الدُّنْيَا وَضِيقِهَا، وَقِيَامِ الدُّوَلِ وَسُقُوطِهَا، وَالْفِسْقِ مِنْ زِنًا وَلِوَاطٍ وَسُكْرٍ، إِلَخْ. وَالْأَوْبِئَةِ وَالزَّلَازِلِ وَهَذَا لَا يَشْعُرُ جَمَاهِيرُ النَّاسِ بِأَنَّ لَهُ عَلَاقَةً مَا بِقِيَامِ السَّاعَةِ الْكُبْرَى، وَإِلَى مَا هُوَ غَرِيبٌ غَيْرُ مَأْلُوفٍ كَظُهُورِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَالدَّجَّالِ وَالْمَهْدِيِّ وَالْمَسِيحِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَأَمَّا الزَّلَازِلُ وَالْخُسُوفُ وَظُهُورُ النُّجُومِ ذَوَاتُ الْأَذْنَابِ أَوِ الْأَذْيَالِ، فَقَدْ صَارَتْ مِنَ الْأُمُورِ الْمُعْتَادَةِ الْمَعْرُوفَةِ بَيْنَ النَّاسِ.وَبِاعْتِبَارٍ ثَالِثٍ إِلَى مَا هُوَ عَلَامَةٌ عَلَى قِيَامِ سَاعَةِ الْجِيلِ أَوِ الدَّوْلَةِ، كَذِهَابِ الْأَمَانَةِ وَتَوْسِيدِ الْأَمْرِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، وَمَا هُوَ آيَةٌ عَلَى قُرْبِ السَّاعَةِ الْعَامَّةِ الْكُبْرَى.وَيَرِدُ مِنَ الْإِشْكَالِ عَلَى مَا ذُكِرَ أَنَّ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَشْرَاطِ الصُّغْرَى الْمُعْتَادِ مِثْلُهَا، الَّتِي تَقَعُ عَادَةً بِالتَّدْرِيجِ لَا يُذَكِّرُ بِقِيَامِ السَّاعَةِ، وَلَا تَحْصُلُ بِهِ الْفَائِدَةُ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا أَخْبَرَ الشَّارِعُ بِقُرْبِ قِيَامِ السَّاعَةِ- وَأَنَّ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَشْرَاطِ الْكُبْرَى الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ يَضَعُ الْعَالِمَ بِهِ فِي مَأْمَنٍ مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ قَبْلَ وُقُوعِهَا كُلِّهَا، فَهُوَ مَانِعٌ مِنْ حُصُولِ تِلْكَ الْفَائِدَةِ، فَالْمُسْلِمُونَ الْمُنْتَظِرُونَ لَهَا يَعْلَمُونَ أَنَّ لَهَا أَشْرَاطًا تَقَعُ بِالتَّدْرِيجِ، فَهُمْ آمِنُونَ مِنْ مَجِيئِهَا بَغْتَةً فِي كُلِّ زَمَنٍ، وَإِنَّمَا يَنْتَظِرُونَ قَبْلَهَا ظُهُورَ الدَّجَّالِ وَالْمَهْدِيِّ وَالْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَهَذَا الِاعْتِقَادُ لَا يُفِيدُ النَّاسَ مَوْعِظَةً وَلَا خَشْيَةً، وَلَا اسْتِعْدَادًا لِذَلِكَ الْيَوْمِ أَوْ لِتِلْكَ السَّاعَةِ، فَمَا فَائِدَةُ الْعِلْمِ بِهِ إِذًا؟ وَهَلْ مِنَ الْحِكْمَةِ أَنْ تَكُونَ فَائِدَتُهَا مَحْصُورَةٌ فِي وُقُوعِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ يُشَاهِدُونَ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكُبْرَى، وَلاسيما آخِرُ آيَةٍ مِنْهَا؟ وَكَيْفَ يَتَّفِقُ هَذَا وَمَا وَرَدَ مِنْ كَوْنِ كُلِّ رَسُولٍ كَانَ يُخَوِّفُ قَوْمَهُ وَيُنْذِرُهُمُ السَّاعَةَ وَالدَّجَّالَ قَبْلَهَا؟ وَكَيْفَ وَقَعَ هَذَا مِنْهُمْ وَلَمْ يُصَدِّقْهُ الْوَاقِعُ وَمِثْلُهُ لَا يَكُونُ بِمَحْضِ الرَّأْيِ؟ وَهَلْ كَانَ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ بِالْإِخْبَارِ بِهَا تَأْمِينَ النَّاسِ مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ مُدَّةَ قُرُونٍ كَثِيرَةٍ إِلَى أَنْ تَظْهَرَ هَذِهِ الْأَشْرَاطُ؟ أَمْ كَانَ يَتَوَقَّعُ ظُهُورَهَا بَعْدَهُ فِي قَرْنِهِ أَوْ فِيمَا يَقْرُبُ مِنْهُ كَغَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ بِدَلِيلِ مَا وَرَدَ مِنْ تَجْوِيزِهِ ظُهُورَ الدَّجَّالِ فِي زَمَنِهِ، وَتَصْدِيقِهِ مَا حَكَاهُ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ مِنْ خَبَرِ الْجَسَّاسَةِ، وَكَوْنِ الدَّجَّالِ مَحْبُوسًا فِي جَزِيرَةٍ؟..الْإِشْكَالُ وَالِاشْتِبَاهُ فِي رِوَايَاتِ الدَّجَّالِ: قَدْ تَقَدَّمَ مَا قَالَهُ ابْنُ الْجَوَازِيِّ مِنْ كَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُقَدِّرُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ تَقْدِيرًا؛ إِذْ لَمْ يُوحِ اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَخْبَارَهَا تَفْصِيلًا، وَعَدَّ مِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي احْتِمَالِ ظُهُورِ الدَّجَّالِ فِي زَمَنِهِ.وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ أَحَادِيثِ ابْنِ صَيَّادٍ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ: قَالَ الْعُلَمَاءُ وَقِصَّتُهُ مُشْكِلَةٌ وَأَمْرُهُ مُشْتَبِهٌ... وَظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ بِأَنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ وَلَا غَيْرَهُ، وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ بِصِفَاتِ الدَّجَّالِ وَكَانَ فِي ابْنِ صَيَّادٍ قَرَائِنُ مُحْتَمَلَةٌ؛ فَلِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يَقْطَعُ بِأَنَّهُ الدَّجَّالُ وَلَا غَيْرُهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ لِعُمَرَ: «إِنْ يَكُنْ هُوَ فَلَنْ تَسْتَطِيعَ قَتْلَهُ». اهـ. وَلَا بَأْسَ بِبَيَانِ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ النَّوَوِيُّ مِنَ الْإِشْكَالِ وَالِاشْتِبَاهِ بِشَيْءٍ مِنَ التَّفْصِيلِ.إِنَّ أَحَادِيثَ الدَّجَّالِ مُشْكِلَةٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحُدُهَا: مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنْ مُنَافَاتِهَا لِحِكْمَةِ إِنْذَارِ الْقُرْآنِ النَّاسَ بِقُرْبِ قِيَامِ السَّاعَةِ وَإِتْيَانِهَا بَغْتَةً.ثَانِيهَا: مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنَ الْخَوَارِجِ الَّتِي تُضَاهِي أَكْبَرَ الْآيَاتِ الَّتِي أَيَّدَ اللهُ بِهَا أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ أَوْ تَفُوقُهَا، وَتُعَدُّ شُبْهَةً عَلَيْهَا كَمَا قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ، وَعَدَّ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ ذَلِكَ مِنْ بِدْعَتِهِمْ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللهَ مَا آتَاهُمْ هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَّا لِهِدَايَةِ خَلْقِهِ، الَّتِي هِيَ مُقْتَضَى سَبْقِ رَحْمَتِهِ لِغَضَبِهِ، فَكَيْفَ يُؤْتِي الدَّجَّالَ أَكْبَرَ الْخَوَارِقِ لِفِتْنَةِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنْ عِبَادِهِ؟ فَإِنَّ مِنْ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ يَظْهَرُ عَلَى الْأَرْضِ كُلِّهَا فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ مِنْ ثِقَاتِ التَّابِعِينَ أَنَّهُ لَا يَنْجُو مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ رَجُلٍ وَسَبْعَةُ آلَافِ امْرَأَةٍ. قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ. وَهَذَا لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا أَرْسَلَهُ؛ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ اهـ. وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ عِنْدِي.ثَالِثُهَا: وَهُوَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ مَا قَبْلُهُ، أَنَّ مَا عُزِيَ إِلَيْهِ مِنَ الْخَوَارِقِ مُخَالِفٌ لِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ الْقَطْعِيَّةِ أَنَّهُ لَا تَبْدِيلَ لِسُنَّتِهِ تَعَالَى وَلَا تَحْوِيلَ. وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ الْمُضْطَرِبَةُ الْمُتَعَارِضَةُ لَا تَصْلُحُ لِتَخْصِيصِ هَذِهِ النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ وَلَا لِمُعَارَضَتِهَا.رَابِعُهَا: اشْتِمَالُ بَعْضِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى مُخَالَفَةِ بَعْضِ الْقَطْعِيَّاتِ الْأُخْرَى مِنَ الدِّينِ كَتَخَلُّفِ أَخْبَارِ الرُّسُلِ أَوْ كَوْنِهَا عَبَثًا وَإِقْرَارِهِمْ عَلَى الْبَاطِلِ وَهُوَ مُحَالٌ فِي حَقِّهِمْ.خَامِسُهَا: أَنَّهَا مُتَعَارِضَةٌ تَعَارُضًا كَثِيرًا يُوجِبُ تَسَاقُطَهَا كَمَا تَرَى فِيمَا يَلِي. فَمِنْ ذَلِكَ التَّعَارُضِ أَنَّ بَعْضَهَا يُصَرِّحُ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرَى مِنَ الْمُحْتَمَلِ ظُهُورَ الدَّجَّالِ فِي زَمَنِهِ، وَأَنَّهُ يَكْفِي الْمُسْلِمِينَ حِينَئِذٍ شَرَّهُ، وَبَعْضُهَا يُصَرِّحُ بِأَنَّهُ يَخْرُجُ بَعْدَ فَتْحِ الْمُسْلِمِينَ لِبِلَادِ الرُّومِ وَالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَمِنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَشُكُّ فِي ابْنِ صَيَّادٍ مَنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ هَلْ هُوَ الدَّجَّالُ أَمْ لَا؟ وَأَنَّهُ وَصَفَ صلى الله عليه وسلم الدَّجَّالَ بِصِفَاتٍ لَا تَنْطَبِقُ عَلَى ابْنِ صَيَّادٍ كَمَا قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.وَمِنَ التَّعَارُضِ أَيْضًا أَنَّهُ يُصَرِّحُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِأَنَّهُ يَكُونُ مَعَهُ أَيِ الدَّجَّالِ جَبَلٌ أَوْ جِبَالٌ مَنْ خُبْزٍ وَنَهْرٌ أَوْ أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ وَعَسَلٍ، كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بِسَنَدِ رِجَالٍ ثِقَاتٍ مَعَ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: مَا سَأَلَ أَحَدٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الدَّجَّالِ مَا سَأَلْتُهُ، وَإِنَّهُ قَالَ لِي: مَا يَضُرُّكَ مِنْهُ؟ قُلْتُ: لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ مَعَهُ جَبَلَ خُبْزٍ وَنَهْرَ مَاءٍ. قَالَ: «بَلْ هُوَ أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ ذَلِكَ» وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ «يَقُولُونَ إِنَّ مَعَهُ جِبَالَ خُبْزٍ وَلَحْمٍ وَنَهْرًا مِنْ مَاءٍ» وَقَدْ أَوَّلُوا هَذَا لِتَصْحِيحٍ ذَاكَ، وَيُتَأَمَّلُ قَوْلُ جَابِرٍ: يَقُولُونَ إِنَّ مَعَهُ كَذَا وَكَذَا وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّكَ قُلْتَ هَذَا.وَمِنَ التَّعَارُضِ أَيْضًا مَا وَرَدَ مِنِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ فَفِي بَعْضِ الرِّوَيَاتِ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ عَلَى الْإِبْهَامِ. وَفِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ خَلَّةٍ بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ أَصْبَهَانَ، وَفِي حَدِيثِ الْجَسَّاسَةِ عِنْدَهُ أَنَّهُ مَحْبُوسٌ بِدَيْرٍ أَوْ قَصْرٍ فِي جَزِيرَةِ بَحْرِ الشَّامِ- أَيِ الْبَحْرِ الْمُتَوَسِّطِ وَهُوَ فِي الشَّمَالِ- أَوْ بَحْرِ الْيَمِينِ وَهُوَ فِي الْجَنُوبِ وَأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا، وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ خُرَاسَانَ، وَقَدْ حَاوَلَ شُرَّاحُ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرُهُمُ الْجَمْعَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ فَجَاءُوا بِأَجْوِبَةٍ مُتَكَلَّفَةٍ رَدَّهَا الْمُحِقُّونَ كُلَّهَا أَوْ أَكْثَرَهَا، وَفِيهَا مِنَ الْمُشْكِلَاتِ غَيْرُ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ وَلاسيما الرِّوَايَاتُ فِي ابْنِ صَيَّادٍ، وَمَا كَانَ مِنْ حَلِفِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنَّهُ هُوَ الدَّجَّالُ، وَإِقْرَارِهِ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ، وَمُتَابَعَةِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ إِيَّاهُ عَلَى هَذَا الْحَلِفِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ.وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنِ الْأَخِيرِ بِأَنَّ هَذَا التَّقْرِيرَ قَدْ نَقَضَهُ التَّصْرِيحُ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرٍ بِخِلَافِهِ حِينَ قَالَ لَهُ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ، فَقَالَ: «إِنْ يَكُنْ هُوَ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ» إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ، وَقَدْ رَدَّ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ بَعْضَ تَأْوِيلَاتِ الْحَافِظِ الْبَيْهَقِيِّ فِي مَوْلِدِ ابْنِ صَيَّادٍ وَصِفَاتِهِ وَفِي إِقْرَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ عَلَى حَلِفِهِ، وَعَدَّ قِصَّةَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ مُرَجِّحَةً لِكَوْنِهِ غَيْرَ ابْنِ صَيَّادٍ، وَكَوْنِ عُمَرَ كَانَ يَحْلِفُ حَلِفَهُ قَبْلَ سَمَاعِهِ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ- لِهَذَا أُخُصُّ هَذَا الْحَدِيثَ بِشَيْءٍ مِنَ التَّفْصِيلِ فَأَقُولُ إِنَّ فِيهِ عِدَّةَ مَبَاحِثٍ.(1) كَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ مَنْ عَرَبِ فِلَسْطِينَ سُورِيَّةَ وَقَدْ وُصِفَ بِأَنَّهُ كَانَ رَاهِبَ زَمَانِهِ، وَقَدْ جَاءَ هُوَ وَأَخُوهُ نُعَيْمٌ الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَأَسْلَمَا، وَحَدَّثَ هُوَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِحِكَايَةِ الْجَسَّاسَةِ الْغَرِيبَةِ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ مِنَ الْعُبَّادِ وَمِنَ الْقَصَّاصِينَ، وَلَمْ يُذْكَرْ لِأَحَدٍ شُبْهَةٌ فِيهِ بَلْ عَدُّوا مِنْ مَنَاقِبِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَوَى عَنْهُ، وَسَتَعْلَمُ مَا فِيهِ، فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ.(2) رَاوِيَةُ الْحَدِيثِ عَنْهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ بِطُولِهِ وَمُشْكِلَاتِهِ هِيَ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ وَقَالَتْ: «إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ النَّاسَ فِي الْمَسْجِدِ رِجَالًا وَنِسَاءً وَحَدَّثَهُمْ عَلَى الْمِنْبَرِ بِمَا سَمِعَهُ مِنْ تَمِيمٍ مِنْ هَذِهِ الْحِكَايَةِ» وَقَدْ رَوَاهُ عَنْهَا الشَّعْبِيُّ وَحْدَهُ، وَهُوَ عَلَى جَلَالَتِهِ قَدْ رَوَى عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ لَمْ يَرَهُمْ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّ الْمُحَدِّثِينَ أَثْنَوْا عَلَى مَرَاسِيلِهِ أَنَّهُ صَرَّحَ بِالسَّمَاعِ مِنْهَا، وَسَيَأْتِي مَنْ رَوَاهُ غَيْرُهَا وَغَيْرُهُ.(3) مِنْ عِلَلِ الْحَدِيثِ إِذًا أَنَّهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا بِالتَّوَاتُرِ لِغَرَابَةِ مَوْضُوعِهِ وَلِاهْتِمَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهِ وَجَمْعِهِ النَّاسَ لَهُ وَتَحْدِيثِهِ بِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَاسْتِشْهَادِهِ بِقَوْلِ تَمِيمٍ عَلَى مَا كَانَ حَدَّثَهُمْ بِهِ قَبْلَ إِسْلَامِهِ، وَلِسَمَاعِ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ لَهُ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم فَمِنْ غَيْرِ الْمَعْقُولِ أَلَّا يُرْوَى إِلَّا آحَادِيًّا، وَيُؤَيِّدُهُ امْتِنَاعُ الْبُخَارِيِّ عَنْ إِخْرَاجِهِ فِي صَحِيحِهِ لِشِدَّةِ تَحَرِّيهِ، وَقَدْ أَجَابَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ عِنْدَ شَرْحِ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي ابْنِ صَيَّادٍ مِنْ كِتَابِ الِاعْتِصَامِ عَنْ هَذَا الْإِعْلَالِ بِقَوْلِهِ: وَلِشِدَّةِ الْتِبَاسِ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ. أَيْ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ صَيَّادٍ- سَلَكَ الْبُخَارِيُّ مَسْلَكَ التَّرْجِيحِ، فَاقْتَصَرَ عَلَى حَدِيثِ جَابِرٍ عَنْ عُمَرَ فِي ابْنِ صَيَّادٍ، وَلَمْ يُخَرِّجْ حَدِيثَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فِي قِصَّةِ تَمِيمٍ، وَقَدْ تَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ غَرِيبٌ فَرْدٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ رَوَاهُ مَعَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةُ وَجَابِرٌ أَمَّا أَبُو هُرَيْرَةَ فَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ عَنِ الْمُحْرِزِ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِيهِ بِطُولِهِ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مُخْتَصَرًا وَابْنُ مَاجَهْ عَقِبَ رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ عَنْ فَاطِمَةَ قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَلَقِيتُ الْمُحْرِزَ فَذَكَرَهُ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَهُوَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: ثُمَّ لَقِيتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ فَقَالَ: أَشْهَدُ عَلَى عَائِشَةَ حَدَّثَتْنِي كَمَا حَدَّثَتْكَ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ وَذَكَرَ لَفْظَهُ.أَقُولُ: إِنَّ مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ لَا يَنْفِي كَوْنَ الْحَدِيثِ مِنَ الْآحَادِ، وَالْمَقَامُ مَقَامُ التَّوَاتُرِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَسْبَابِ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي، وَلَا يَنْفِي أَيْضًا كَوْنَهُ غَرِيبًا أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَرْدًا فَقَدِ انْحَصَرَتِ الْأَسَانِيدُ لِرِوَايَتِهِ فِي الشَّعْبِيِّ وَفِي فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُمَيْعٍ عَنِ ابْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ، فَهُوَ عَلَى كَوْنِهِ لَيْسَ مِنَ الصَّحِيحِ- مُخْتَصَرٌ، وَلَيْسَ فِيهِ إِسْنَادُ الْحِكَايَةِ إِلَى تَمِيمٍ الدَّارِيِّ بَلْ لَا يَزِيدُ لَفْظُ الْمَرْفُوعِ فِيهِ عَنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ «بَيْنَمَا أُنَاسٌ يَسِيرُونَ فِي الْبَحْرِ فَنَفِدَ طَعَامُهُمْ فَرُفِعَتْ لَهُمْ جَزِيرَةٌ فَخَرَجُوا يُرِيدُونَ الْخُبْزَ فَلَقِيَتْهُمُ الْجَسَّاسَةُ» قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ عَبْدِ اللهِ: فَقُلْتُ لِأَبِي سَلَمَةَ وَمَا الْجَسَّاسَةُ؟ قَالَ امْرَأَةٌ تَجُرُّ شَعْرَ جِلْدِهَا وَرَأْسِهَا قَالَتْ فِي هَذَا الْقَصْرِ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ- وَسَأَلَ عَنْ نَخْلِ بِيسَانَ وَعَنْ عَيْنِ زُغَرَ، قَالَ: هُوَ الْمَسِيحُ. فَقَالَ لِي ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ: إِنَّهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ شَيْئًا مَا حَفِظْتُهُ، قَالَ شَهِدَ جَابِرٌ أَنَّهُ هُوَ ابْنُ صَائِدٍ وَفِي نُسْخَةٍ- ابْنُ صَيَّادٍ- فَقُلْتُ: إِنَّهُ قَدْ مَاتَ قَالَ وَإِنْ مَاتَ. قُلْتُ: فَإِنَّهُ قَدْ أَسْلَمَ. قَالَ: وَإِنْ أَسْلَمَ. قُلْتُ: فَإِنَّهُ قَدْ دَخَلَ الْمَدِينَةَ قَالَ وَإِنْ دَخَلَ الْمَدِينَةَ انْتَهَى سِيَاقُ أَبِي دَاوُدَ بِحُرُوفِهِ.
|